مختارات
الرئيسية / مقال رئيس التحرير / الانتفاضة من فوق عربة فول .. بقلم : باهــر الســليمى
باهر السليمى

الانتفاضة من فوق عربة فول .. بقلم : باهــر الســليمى

اقتربت من احدي عربات الفول المنتشرة في شوارع القاهرة ـ وهي عادة قديمة منذ ان وطأت قدماي قاهرة المعز ـ وتقدمت الي الشاب الواقف خلفها «احمد» وحوله عشرات الزبائن الذين تعودت رؤيتهم كلما اشتقت الي عربة الفول ـ رغم عدم مفارقتي للفول ذاته فبيني وبينه عشرة طويلة ـ واشرت بطلبي الي الشاب الذي هم بتجهيزه فورا ناسيا او متناسيا من حوله ممن يطلبون..
وسألني حار ولا حلو.. حار.. مخلل يا بيه.. ميضرش… طبق سلطة اكيد.. اكيد.. قرنين فلفل لو سمحت.. بيض.. مفيش مانع.. اوامرك يا باشا.. وتم احضار كل ذلك وانا واقف في مكاني امام عربة الفول.. ثم بدأت… والتفت يميني فوجدت رجلا في العقد الخامس من عمره قد افترش الارض وقد بدت عليه علامات التعب والارهاق الشديدين.. وبدأ في تناول طعامه الذي هو عبارة عن طبق فول سادة اي بدون اي اضافات لازيت حار ولا حلو.. ورغيف خبز واحد يوحد المولي، وما هي الا دقائق معدودة الا وكان الرجل قد اتي علي طبق الفول ومعه الرغيف اليتيم.. وكأنه في سباق مع الزمن.. واشرت إلى الشاب الواقف خلف العربة الا يحاسبه.. الا ان الرجل ابي ورفض.. معلنا شكره وامتنانه.. واخرج من جيبه ورقة مالية باليه فئة الخمسين قرشا ودسها في يد الشاب ثم انصرف مغادرا عربة الفول بعد ان حمد ربه وشكره علي نعمته التي انعم الله بها عليه.. وانتحي جانبا امام احد المقاهي علي الرصيف المقابل… واخذ يتابع المارة بنظرات زائغة وعيون دامعة..
وانهيت تناولي للطعام تاركا معظمه ونظر اليّ الشاب الواقف خلف العربة مندهشا: مش عادتك؟ الفول مش عاجب يا بيه؟.. بالعكس تسلم يدك.. ودسست في يده الحساب.. ثم انصرفت.
لا اعرف ما الذي ساقني ناحية المقهي المواجه لي علي الناصية الاخري والذي يقف امامه «الرجل» واتجهت الي هناك ودون ان ادري وجدت يدي تلمس كتف الرجل وانا اقول له تسمح لي ان اعزمك علي واحد شاي.. نظر اليّ الرجل متوجسا ثم رد قائلا: ايه المناسبة.. حضرتك تعرفنى؟.. فرددت عليه وابتسامة عريضة تعلو وجهي: من غير اي مناسبة ومش لازم اكون اعرفك علشان اعزمك.. وكمان دا واحد شاي مش واحد خروف.
فحاول الرجل ان يبادل ابتسامتي العريضة بإخرى مثلها لكنه لم يستطع فرأفت بحاله وحالي معا.. وهممنا بالدخول الي المقهي.. تسمرت قدماه في الارض.. لاحظت تردده والتحفظ.. لكنني شجعته ثم جلسنا.
وبعد دقائق معدودة من الصمت الرهيب الذي احتوانا ناديت علي صبي المقهي الذي لبي النداء مسرعا.. فسألت صاحبي.. مظبوط ولا زيادة.. فاجاب وكأنه لم يجب ز.. يادة… فأشرت إلى الصبى: اتنين شاي سكر زيادة لو سمحت.. وانصرف الفتي.. وساد الصمت مرة اخري وقبل ان ابدأ حديثي حضر الفتي معلنا مجيئه.. الشاي السكر زيادة يا بيه.. وترك الطلبات وانصرف.. ومد صاحبي يده الي كوب الشاي وارتشف اول رشفة ثم سمعته بعدها يتنهد تنهيدة طويلة وكأنه يلقي هموم الدنيا عن كاهله مرة واحدة… وحاولت ابعاده عن حالة الوجوم والحزن التي هو عليها.. فسألته: الشاي ناقص سكر.. فهز رأسه نافيا.. ثم تبع ذلك ابتسامة عريضة فضحكة مكتومة.. فعقبت مستفسرا: اخيرا ابتسمت.. خير ان شاء الله ضحكني معاك.
فأسند كوب الشاي جانبا بعد ان ارتشف منه رشفة اخري.. ثم اردف قائلا: تعرف من امتي مشربتش شاى؟ اجبته وكلي اهتمام لسؤاله: من امتي يا ترى؟
حوالي اكتر من شهرين.. بالضبط كده من يوم وفاة ابنى «احمد».. ثم صمت مرة اخري ورأيت الدموع تحاول الانحدار من مقلتي الرجل.. ولكنها لم تستطع فلم يبق منها شىء او كأنها عز عليها ان تقضي علي القلة الباقية منها.. فمازال في الدنيا المزيد من المصائب التي تنتظر الرجل، وحاولت كسر حدة هذا الصمت فقلت له.. دي اول مرة اشوفك هنا في المنطقة دي..
فرد وهو يحاول ان يتمالك نفسه حتي لا تغادر دموعه عينيه.. صحيح دي المرة الاولانية اللي اجي فيها هنا فأنا اساسا من الجيزة ساكن في المنيب.
< يااه من المنيب لعين شمس.. وايه اللي حدفك هنا.
أكيل العيش.
< قلت له مبتسما: بمناسبة اكل العيش.. شوفت ان اكلك قليل.. دا رجيم ولا ايه؟
ضحك.. والرجيم ده يطلع ايه كمان؟ انا معرفش الحاجات دي.. وطبق الفول السادة والرغيف دول بالنسبة لي خروف من اني من كتر اكلي للفول نسيت طعم اللحمة.. هي بالمناسبة يا استاذ طعمها ايه؟
< طيب ليه الاحراج ده يا عم الحاج.. ما انا زيك تماما.. الوجبة الرئىسية والاسياسية عندي هي الفول.. ولما احب ادلع نفسي يكون مع طبق الفول بيضة او اتنين كبديل للحمة.
لا.. اكيد انت بتهزر يا استاذ؟
< لا والله.. والنعمة دي ـ اشرت الي كوب الشاي ـ ما هو تهريج ولا هزار.
باين عليك ابن حلال وغلبان زي حلاتي.
< الفقراء اللي زي حلاتنا هم اولاد الحلال في البلد دي.
آه والله.. كلامك صحيح.
صمت قليلا ثم اردف قائلا.. تعرف يا استاذ.. بالحق هو اسم حضرتك ايه؟
< «باهر» وحضرتك؟
هاشم.. هاشم ابو زيد.. حتي اسمي فيه ريحة الزيت.. ضحك ثم ضحكنا سويا واضاف.. تعرف يا استاذ «باهر» طبق الفول ده اول اكلة لي من طلعة النهار.. واللي حازز في نفسي اني سايب البيت من غير اكل او مصروف.. ومش عارف هيعملوا ايه؟ بس افتكرت انا افكار امبارح في العشاء كان في بواقي طبق فول.. نعمة.. الحمد لله.
هو أنت يا عم هاشم مقضي حياتك كده كلها فول في فول.
يا سلام يا استاذ علي الفول ده.. دا اللي اخترعه المفروض ياخد جايزة نوفل زي بتاعة الدكتور.. اسمه ايه ده.
قصدك نوبل اللي خدها الدكتور أحمد زويل.
اسم الله عليك.. هو ده.. وحياتك دي قليلة علية.. تعرف يا استاذ في سبوع ابني «احمد» ـ الله يرحمه ـ عملنا ليلة ـ حفلة يعني ـ ورحت مشتري قدرة فول بحالها.. وعزمت كل الحتة الجيران والحبايب.. وكانت ليلة ولا كل الليالي.. العيال اكلوا وانبسطوا.. كل ده كوم ولما نحبس انا وام العيال بعد اكلة الفول اللي هي باتنين شاي سكر زيادة.. دي تبقي ليلة ولا الف ليلة.
< بس اكيد يا عم هاشم في حاجة تانية غير الفول؟
طبعا يا استاذ.. هو في حد يقدر يعيش علي نوع اكل واحد.. بس التغيير مش كل يوم طبعا.. ما انت راسي علي الحالة واللي فيها.
< اكيد بتغير وتاكل لحمة.
< لحمة منين يا استاذ.. صلي علي اللي يشفع فيك.
< عليه الصلاة والسلام.. اومال تغير لإيه يا عم هاشم.
هي «حلة» الفول «النابت» يوم الخميس وتفضل معانا لتاني يوم الجمعة.. ونعمل فتة في الميه بتاعت النابت كام رغيف ناشف ونغمس انا والعيال وأمهم..
< واشمعني النابت يوم الخميس بالذات.
ده يا استاذ بنعتبره اسمها ايه دي الفياجرا ولا هي اسمها ايه.. دي تخليك تعمل احلي واجب.. واسألني انا؟
< بس باين عليك مغرم بالفول موت.
طبعا ويا سلام.. لو الحالة مرتاحة ومعدن وتاكل طبق الفول بالزبدة البلدي والطماطم.. انسي الدنيا بعد كده.. بس المشكلة دلوقتي ان اولاد الايه ـ يقصد الاغنياء ـ يقولوا لك قال ايه ان الفول يجيب امراض ملهاش اول من آخر خوفوا العيال.. طيب هم مالهم بينا.. احنا كنا نجيب في سيرتهم ولا سيرة اكلهم.
وانت تعرف إيه عن اكل الاغنياء يا عم هاشم.
ولا حاجة.. دا انا بسمع بس ناس بتقول في اكلة فراخ اسمها «كنكاكى» ـ يقصد كنتاكي ـ الاغنياء بياكلوها صبح وليل زي الفول بالضبط عندنا.
< طيب ما فكرتش في يوم من الايام تاكل من الفراخ دى؟
عيب الكلام ده يا استاذ.. والفول مين ياكله.. دي عشرة عمر.. والعشرة متهونش غير علي اولاد الحرام.. ولا ايه؟
  لا والله.. عندك حق.

 

تعليقات الفيس بوك

تعليقات الفيس بوك

عن ELkebar-admin

مجــلة الكبـــار .. مجــلة اقتصــادية شــهرية تعد ملتقى الخــبراء وقــادة الــرأي في المجــال الاقتصــادي , ونافــذة رجــال الأعمــال والمســتثمرين على المشــروعات الاقتصــادية التي تهدف إلى عــرض ومناقشــة القضــايا الاقتصــادية المصــرية والعربيــة والدوليــة بأســلوب موضــوعي وأمــانة صحفيــة وتقديــم الخدمــات الاســتثمارية والبنــكية والتجــارية لقطــاعات المجتمــع .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.