مختارات
الرئيسية / وجهات نظر / الحبُّ الأوَّلُ .. بقلم : د. سهير المصادفة

الحبُّ الأوَّلُ .. بقلم : د. سهير المصادفة

سهير المصادفة

سهير المصادفة


كنت فتاة صغيرة لا تؤمن بوجود الحب بل تسخر من الأفلام المصرية كلها، وتسفه من أهمية وجود الحب مدعية ــ بصلافة منقطعة النظير ــ أن هذا الوهم المُسمى الحب ما هو إلا اختراع مُعطل لقوى الإبداع والعمل وأنه ببساطة ضعفٌ مروعٌ يصحبه عادة كلامٌ فارغٌ لا يُنيرُ قنديلاً ولا يصنع صاروخًا ننطلقُ به إلى المجرات الأخرى. والمُدهش أننى منذ سن مبكرة وتحديدًا في آخر سنة في المرحلة الابتدائية كنت قد قررت سرًّا أن أصير كاتبة وشرعت ألتهم كتب الفلسفة الإغريقية وألف ليلة وليلة وأنفر نفورًا شديدًا من القصائد المدلهة فى دائرة مغلقة من النحيب المتواصل للمحبين الكبار ولكنني رغم ذلك حفظت ــ عن ظهر قلبٍ ــ الكثير منها وكانت تباغتني إحدى القصائد حين يرق الليل فوق سكونه فأردد بينى وبين نفسى دون توقف.. مررت على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار / وما حب الديار شغفن قلبى ولكن حب من سكن الديار. لم أدرك آنذاك أننى أهرب هروب مَنْ يعرف سهولة انكساره أمام الحب، لم أدرك أن ذكاء فطرتى كان يؤجل بقدر ما يستطيع أن أعيش قدر المجنون مثلاً فرحت أخططُ ببرود كيف سأتفرغ بعيدًا عن الارتباط للكتابة. كان الوقت إذًا غير مناسب تمامًا حين هاجمنى الحب الأول فانجذبت هذا الانجذاب المروع وكأننى ضُربت بشهاب أضاءنى وأضاء من حولى جميع أسباب الحياة، واكتشفت لحظتها أننى يجب أن أُحرم منه وإلى الأبد؛ لأنني لم أصدق وجوده وبالتالى لم أقدم قرابين انتظار تليقُ به، كان عقابى أن أتعرف على نوره الساطع وجهًا لوجه دون الحلم حتى بإمكانية لمسه فلقد كنت أعرف جيدًا أنني أنا نفسى مَن وضع هذا الزجاج بينى وبينه، ولكن حبى الأول كان رفيقًا بى وأخذ يقودنى دون إرادة منى إلى ذروات أسمى، جعلنى أتهجأ مفردات الحق والخير والجمال على مهلٍ وأخذ بيدى لأكتشف أنه سينطفئ على الفور إذا ما تلوث بالكذب أو الخيانة وأنه مُتطلب للغاية وقاس لحدود بعيدة فلقد أسرَّ لى أنه سرعان ما سيرحل تاركًا القلبين اللذين حلَّ بهما جثتين هامدتين إذا ما خدشاه بما يقلل من قدْره، ثم همس لى أنه مثل الشعر يُمكننى أن أتعرف عليه ببساطة إذا ما صعقنى، ولكنني لا يمكنني ــ بحال من الأحوال ــ أن أحاصره فى تعريف مُختصر.

لم يمُتْ حبى الأول إذًا لأننى لم أستطع قتله بأى سلاح من الأسلحة المُتاحة التى كشف لى هو نفسه عنها.. كان يُمكننى مثلا أن أتخلص منه بالخيانة وكان يُمكننى أن أتخلص منه بتأليف العديد من الأكاذيب ــ أنا المؤلفة ــ ولكنه ظل صامدًا هناك مُحلقًا لسنوات طويلة تمامًا فوق رأسى، وما زلت ــ بعد أن كُسرت جميع ألواح الزجاج دون قصد منى ــ أرى من بعيد جميع شموسه التى تُخاتلنى بفرح لم أتذوقه فى حياتى أبدًا.

الآن وبعد أن مرَّ على هذا الاندياح أكثر من عشرين عامًا وجرت فى النهر مياه كثيرة وخبرت الحياة وخبرتنى أعلم أنه موجود وأنه يظلنى بسحابة حانية طوال الوقت، وكلما تذكرت رواية الكاتب الكولومبى العظيم “ماركيز” “الحب فى زمن الكوليرا” أندهش من روعة تصويره لهذه الحالة وتعاطفه مع بطليه إلى درجة قبول قربانهما الذى دفعاه.. سنوات من الحرمان والعزلة، وما زلت أعتقد أن نهاية هذه الرواية من أكثروأعظم النهايات تفاؤلاً فى العالم. 

 

تعليقات الفيس بوك

تعليقات الفيس بوك

عن ELkebar-admin

مجــلة الكبـــار .. مجــلة اقتصــادية شــهرية تعد ملتقى الخــبراء وقــادة الــرأي في المجــال الاقتصــادي , ونافــذة رجــال الأعمــال والمســتثمرين على المشــروعات الاقتصــادية التي تهدف إلى عــرض ومناقشــة القضــايا الاقتصــادية المصــرية والعربيــة والدوليــة بأســلوب موضــوعي وأمــانة صحفيــة وتقديــم الخدمــات الاســتثمارية والبنــكية والتجــارية لقطــاعات المجتمــع .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.