مختارات
الرئيسية / ثقافة و أدب / إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ .. الجزء الأول “الْصًدْمَةُ” بقلم : محمد حلمي

إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ .. الجزء الأول “الْصًدْمَةُ” بقلم : محمد حلمي

جلس محمد علي ذلك المقعد الخشبي في رواق المستشفي منتظرا دوره لمراجعة لجنة مكونة من أفضل الأطباء لحالته الصحية. 

انحني محمد و اسند رأسه علي قبضته و هو يتذكر كيف بدأ الأمر… 

يومها سقط مغشيا عليه أثناء عمله و نقله زملائه إلي أقرب مستشفي و ظل بعدها أياما غائبا عن الوعي ثم أفاق ليخبره الأطباء أنه مصاب بسرطان الدم في مرحلة متقدمة و أن وفاته قد تحدث خلال أسابيع قليلة. 

كان الأمر صادما له فهو شاب قوي البنية و رياضي و لم يشكو أي مرض قط طيلة سنوات عمره الخمسة و عشرون.

و ما زاد عليه الهم أنه وحيد تماما لا زوجه و لا أهل… 

و ذهب محمد إلى عدة أطباء و أجري الكثير من الفحوصات و التحاليل و كانت النتيجة دائما واحدة…

لا أمل… 

و طرق محمد كل الأبواب حتي سمع يوما ما عن سيدة عجوز يقال أن لها كرامات في حواري مصر القديمة. 

حاول محمد الوصول الي بيتها بصعوبة الي أن شارفت الشمس علي الغروب و يئس تماما و قرر الرحيل و بينما هو جالس في سيارته يستعد للرحيل سمع طرقا علي زجاج سيارته 

التفت محمد فوجد طفلا في حوالي السابعة من عمره أبيض البشرة أشقر الشعر قال له:

هل تريد أن تذهب إلى بيت الشيخه مبروكة 

لم يكن محمد يعرف اسم السيدة العجوز و لكنه توقع أن تكون هي الشيخه مبروكة فوافق بلهفة و أرشده الطفل الي بيت قديم في آخر الحارة. 

نزل محمد بضع درجات من السلالم فوجد باب خشبي شبه مفتوح فطرقه و سمع صوتا ضعيفا يصيح من الداخل : مين؟!!

صاح محمد : انتي الشيخه مبروكة؟!!

قالت السيدة: نعم يا بني ادخل ماذا تريد؟!!

أدار محمد عينه في المكان كانت غرفة صغيرة ضيقة قذرة رطبة مملوءة بالكراكيب و بها كنبة صغيرة تجلس عليها الشيخه مبروكة و يبدو أنها تنام عليها أيضا و بها نافذة صغيرة تطل علي الحارة بينما مصباح ضعيف يتدلي من سقف الغرفة لا يكاد يضئ المكان. 

كانت الشيخه مبروكه سيدة عجوز بيضاء نحيلة للغاية ترتدي جلبابا أسود و تغطي رأسها بطرحة سوداء خفيفة يظهر من تحتها شعرها الأبيض الناعم. 

كان من الواضح أنها عمياء فقد كان سواد عينيها مائل للأبيض ربما بفعل الشيخوخه.

شعر محمد بقليل من الغثيان بسبب الرطوبه العالية في تلك الغرفه 

وجد كرسي قديم قذر فجلس عليه من التعب. 

و شرع يحكي لها قصته… 

قامت السيدة العجوز تتحسس طريقها في غرفتها الصغيرة حتي عثرت علي كتاب كبير.  

أمسكت الشيخه مبروكة ذلك الكتاب القديم و ناولته لمحمد…

أخذ محمد ذلك الكتاب الضخم و فتحه فوجد صفحاته قديمة جدا عليها كتابات غريبة لم يفهم منها شيئا و بينما هو يقلب فيه سقطت ورقة مطوية منه علي الأرض. 

تناول محمد الورقة و نظر فيها فوجدها فارغة الا من سطر واحد مكتوب بنفس أسلوب تلك الكتابات الغريبة التي تملأ الكتاب

التفت الي السيدة العجوز و سألها عن فحوي تلك الورقة….

ابتسمت المرأة بغموض و هي تقول له : 

يا بني تلك الورقة لم تكن في الكتاب من قبل

فغر محمد فاه في دهشة و هو يقول : 

أنا لا أفهم شيئا…

أشاحت المرأة العمياء بوجهها الي الأعلي و هي تقول له:

يبدو أن الكتاب قد اختارك أنت لسبب ما. 

ازدادت دهشة محمد و هو يقول بارتباك و قد بدا عليه الارهاق:

يا سيدتي أنا مريض بشده و لا اتحمل الاعيبك تحدثي الآن و الا سأرحل لأجد من يساعدني غيرك. 

اعتدلت المرأة في جلستها و اكتست ملامحها بالجدية ثم اخذت نفسا عميقا و قالت:

اسمع يا بني…

ما حدث الآن لم يحدث من قبل… 

تلك الورقة لم تكن هناك

يبدو أنك تلقيت رسالة الآن من عالم آخر

نظر محمد الي تلك الورقة في يده و قد بدت له قديمة صفراء مثل صفحات الكتاب و قال بصوت خافت:

رسالة ممن؟

استندت الشيخة مبروكة علي يد المقعد القديم المهترئ و هي تكمل حديثها:

قبل زمن بعيد عاشت ساحرة في الشام القديمة منذ اكثر من ستمائة عام. 

تعلمت تلك الساحرة فنون السحر الأسود القديم الملعون…

سحر الكهنة السريان و الآشوريين الذي لا يعلم أحد من أين أتي… 

كان الغضب يتصاعد من حولها و الأمور لا تنذر بخير فالناس كانوا يكرهونها بسبب ممارساتها للسحر الأسود… 

كتبت بيدها هذا الكتاب و فيه تعويذة سفلية قديمة لتعيدها الي الحياة اذا قتلها جيرانها بسبب أعمال السحر التي تقوم بها… 

ثم آثرت عائلتها أن تهاجر الي مصر أملا في النجاة بأرواحهم…

و ظلت تمشي لأيام مع عائلتها في رحلة الهجرة تحمل ذلك الكتاب الذي خطته بيدها تستدعي فيه قوي غامضة تعيدها للحياة اذا قتلت. 

و لكن ما حدث بعد ذلك كان غريبا… 

أصيبت الساحرة بالحمي الشديدة و خلال ساعات معدودة ماتت بعد أن اعطت ابنها ذلك الكتاب و كان وقتها طفلا صغيرا. 

قامت عائلتها بدفنها في رمال الصحراء و لم يتذكر أحد مكان قبرها و ضاعت معالمه في الصحراء الممتدة.

صمتت المرأة قليلا…

فتنبه محمد بعد أن كادت أنفاسه أن تنقطع من الرطوبة ثم قال:

و ما علاقة هذا بي… 

ابتسمت السيدة العجوز ثم قالت:

اذا عملت التعويذة عليك فهي قادرة علي شفائك من كل الأمراض و في نفس الوقت ستعيد روح الساحرة لتحل في جسدك و عندها ستحظي بالخلود معها في جسد واحد. 

سعل محمد بوهن و هو يبتسم بسخرية و قال:

و لماذا لم تفعلي أنت ذلك و تستعيدي عينيكي. 

امتعضت المرأة و قالت: 

للأسف التعويذة هي من تختار و ليس أنا و طيلة ستمائة عام مضت لم تختر التعويذة أحدا غيرك. 

عقد محمد حاجبيه باهتمام و قال:

اذا كيف اقرأ هذا الشيئ و ما هذه اللغة

قالت المرأة باهتمام 

السيريانية، كانت هذه لغة السحر قديما قد تجد بعض مشايخ الصوفية علي علم بها. 

هم محمد بالانصراف و وقف و هو يضع في يد السيدة العجوز بعض المال لكن السيدة قالت:

لا أريد مالا… 

يا بني هذه المرأة لم تحظ بدفن لائق اريد منك ان تجد قبرها و تنقل رفاتها الي مكان يليق بها علي الأقل. 

دس محمد تلك الورقة القديمة في معطفه و خرج من بيت السيدة العجوز و قد اقشعر بدنه بسبب برودة الهواء الشديدة في الخارج. 

مشي محمد الي أن وصل سيارته و هو يفكر كيف سيقرأ ما هو مكتوب في تلك الورقه. 

تذكر محمد الحاج عبد الرحمن صديق والده الذي كان مولعا بالتصوف و يعرف الكثير عن السريانية. 

و لم يضيع محمد الوقت و ذهب مباشرة الي بيت الحاج عبد الرحمن

كان يعلم أين يجده فهو غالبا في خلوته بتلك الزاوية الصغيرة تحت منزله. 

خلع محمد نعليه و دلف الي الزواية فرأي الحاج عبد الرحمن جالسا ممسكا سبحة طويلة من الكهرمان الأصفر. 

القي محمد السلام عليه و ابتهج الرجل عندما رآه… 

أخرج محمد الورقة من معطفه و أعطاها للحاج عبد الرحمن و هو يقول:

أرجوك يا حاج هذا سطر واحد فقط أريد أن أعرف ماذا يقول. 

وضع الحاج عبد الرحمن نظارته الطبية علي عينيه و فتح الورقة 

و نظر اليها بدهشة ثم قال: هذه كتابة سيرانية قديمة من أين اتيت بها. 

قال محمد هذه قصة طويلة…

هل تعلم ما معناها؟

نظر اليها مرة أخري و عدل من نظارته و قال:

نعم اظن انني اعلم ما هو مكتوب فيها 

و قرأ عليه الحاج عبد الرحمن ببطء و بوضوح:

إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ

انتفض محمد بغضب و هو يشد الورقه من يده ليحدق فيها و يقول:

فقط ذلك هو المكتوب؟

تعجب الحاج عبد الرحمن و هو يقول:

ما المشكلة يا بني لماذا غضبت هكذا… 

نهض محمد مسرعا و هو يقول : بعدين يا حاج هبقي اتصل بيك. 

عاد محمد مسرعا الي الشارع الذي تسكن به الشيخه مبروكه ليفهم منها ما الذي تعنيه تلك الرسالة.

ركن سيارته خارج الحارة و مشي علي قدميه حتي نهايتها حيث يوجد ذلك البيت القديم.

و تجمد محمد في مكانه… 

فحيث كانت تقف تلك البناية القديمة قبل ساعة وجد محمد أمامه أرضا واسعة مظلمة مملوءة بالقمامة و النفايات. 

لمحه اثنين من الشباب يقفون علي طرف الحارة الآخر و سأله أحدهما ان كان يبحث عن شخص ما؟!!

قال له محمد : أنا ابحث عن بيت الشيخه مبروكه

تعجب الشاب من الاسم و قال أنا لم أسمع هذا الاسم من قبل لكن سأسأل أبي.

نادي الشاب بصوت جهوري علي أباه الذي أطل من شرفة الدور الثاني و قال الشاب : تعرف بيت الشيخة مبروكة فين يا با. 

قال الرجل أنا لم أسمع بهذا الإسم من قبل لكن ربما… 

قطع كلامهم رجل عجوز جدا كان يجلس علي كنبة صغيرة مستندا علي عكازه بجوار باب المنزل : مين اللي بيسأل علي الشيخه مبروكة. 

رد الشاب : الأستاذ ده يا جدي هو اللي بيسأل. 

قال الرجل العجوز باندهاش: انت عرفتها ازاي يا ابني؟

رد محمد : قابلتها منذ قليل لأمر خاص ثم ذهبت… 

قاطعه الرجل العجوز مرة أخري قائلا: 

الشيخة مبروكة الكفيفة ماتت و أنا عيل صغير يا ابني يعني اكتر من 80 سنة و كانت ساكنه في البيت اللي كان مبني مكان الخرابة دي.

صعق محمد من الصدمه و رحل حتي دون أن يرد علي الرجل… 

قطع محمد المسافة إلى بيته و هو يبكي أثناء قيادته للسيارة فقد أصبح يهذي و يتخيل أشياءا ليس لها وجود ربما كان هذا دليلا علي اقتراب نهايته و تمكن المرض منه.

كان قد شعر ببعض الأمل للحظات قليلة فربما يكون هناك علاجا لحالته و لو عن طريق المشعوذين و لكن الآن انتهي كل شيئ. 

دخل محمد شقته و أفرغ كل ما في جيوبه و القي به علي الطاولة باهمال قبل أن يدخل الي غرفته ليخلع ملابسه و يعود مرة أخري ليفتح الثلاجه و يخرج زجاجة الويسكي و الثلج و يجلس علي الطاولة و يصب كأسا ثم يرتشف القليل. 

وقع بصره علي تلك الورقة المطوية علي الطاولة فتناولها و هو يضحك بسخرية و يفتحها 

و اتسعت عيناه في ذهول 

فقد كانت في انتظاره… 

مفاجأة أخري… 

الي اللقاء في الجزء الثاني “خَنْدَرِيسْ”

محمد حلمي

مارس 2019

تعليقات الفيس بوك

تعليقات الفيس بوك

عن ELkebar-admin

مجــلة الكبـــار .. مجــلة اقتصــادية شــهرية تعد ملتقى الخــبراء وقــادة الــرأي في المجــال الاقتصــادي , ونافــذة رجــال الأعمــال والمســتثمرين على المشــروعات الاقتصــادية التي تهدف إلى عــرض ومناقشــة القضــايا الاقتصــادية المصــرية والعربيــة والدوليــة بأســلوب موضــوعي وأمــانة صحفيــة وتقديــم الخدمــات الاســتثمارية والبنــكية والتجــارية لقطــاعات المجتمــع .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.