مختارات
الرئيسية / ثقافة و أدب / حامد أحمد الشريف روائي سعودي تتوق منصات التتويج لاحتضانه والاحتفاء به .. أحمد عفيفي يكتب : مقتل دمية

حامد أحمد الشريف روائي سعودي تتوق منصات التتويج لاحتضانه والاحتفاء به .. أحمد عفيفي يكتب : مقتل دمية

هذه النوعية من الكتابة صعبة جدا وتحتاج لروائي دارس لعلم النفس واستوعب بحوره وخباياه.. وظني ان حامد احمد الشريف لم يجرؤ على كتابة روايته هذه إلا إذا كان مطلعا وملما بهذا النوع من الكتابة التي يطلقون عليها في السينما ( سايكودراما ) .

فروايته( مقتل دمية ) رواية سيكولوجية في المقام الأول.. فبطلتها ( سارة ) فتاة خليجية عانت في طفولتها وصباها وشبابها من تربية صارمة حرمتها حرية البوح ولو حتى في خلوتها .. لا لشئ إلا لمجرد أنها أنثى محسوب عليها أنفاسها .. فها هو الأب الذي رغم حبه الغريزي لها إلا أنها لا تتذكر انه في يوم من الأيام ضمها إلى حضنه .. وهاهي أمها تتجاهل عن عمد أن ابنتها أنثى.. لم تنصحها حتى في مراهقتها بالنصائح التي اعتادت عليها الفتايات حين تأتيهن الدورة الشرعية وتبرز صدورهن وتتكور ويأخذ الجسد شكلا مختلفا يعلن عن مشاعر عفوية لا إرادية بدأت في الظهور طالبة حق الدفاع المشروع عن نفسها كلما زاد الضغط من المحيطين لكبتها ووأدها قبل أن تتجرأ وتطلق لنفسها العنان.

 

وها هو الأخ حاله كحال أبناء ديرته ، يمنح نفسه الحق في الإتيان بكل الموبقات ويأتي عند شقيقته( ويعمل فيها ابو زيد الهلالي ) .. استباح لنفسه ان يأكل ميراثها من أبيها ومجرد الاعتراض منها ولو سرا ، يعتبره جرما تستحق عليه العقاب.. فما عساها كفتاة ان تطلب اكثر من لقمة تسد جوعها وهدمة تستر جسدها حتى اذا ما طرق بابهم رجل ، ألقوها إليه كدمية يلهو بها ويشبع رغباته ويطفئ داخلها شهوته ولو تأوهت وظن تأوهها هذا غنجا وليس ألما ربما أعادها إلى أهلها لإعادة تربيتها من جديد.!!

 

………….

 

هذا النوع من الكتابة أبدع فيه الروائي المصري الكبير إحسان عبد القدوس حين كتب بئر الحرمان وأين عقلي.. وأيضا نجيب محفوظ في رائعته( السراب ) .. ففي بئر الحرمان نشاهد زوجة عبارة عن دمية مسلوبة الإرادة والاحساس .. يتعامل معها زوجها كمجرد أداة تمنحه المتعة ولا يحق لها ان تستمتع هى الأخرى.. الإبنة آلمها هذا الحرمان الجسدي والنفسي الذي تعانيه أمها.. فاستنسخت من نفسها شخصية أخرى لأمها وفعلت نيابة عنها ماتظن انها في حاجة ماسة إليه.. كانت دون إرادة ووعي منها تتزين ليلا تزينا صارخا وترتدي ملابس خليعة تبرز مفاتن جسد يتوق للإنطلاق متحديا من يصادفه المقاومة.. تروي عطشها وتمنح من تقابله لذة دون النظر حتى إلى كينونته.. مجرد عابر ينهل من ماعون عسل منحته له صاحبته( ببلاش ).. بعد ذلك تعود إلى بيتها وتخلع رداء امها وتتجرد من الشخصية .. تنام وتصحو وهى الإبنة غير مدركة ما فعلته بالأمس.

 

سارة بطلة قصتنا ( مقتل دمية ) غارقة هى الأخرى في بئر الحرمان .. وكان لابد لها من اتخاذ قرار بالفرار من هذا البئر إلى دنيا اكثر رحابة ومجتمع لايعتبر الأنثى مصيبة ومشكلة التخلص منها أسهل الف مرة من محاولة استيعاب مشاكلها والتعامل معها على أنها انسانة .. لا أكثر ولا أقل.

 

هربت سارة قاصدة سويسرا واختارت فندقا صغيرا في الريف هناك حيث الطبيعة تغسل هموم الدنيا وتمحو من الذاكرة كل ما يعكر صفوها ونقائها. 

 

لكن لأنها أتت محملة بأوجاع ماض لتوها تركته، لم تسلم من معاناة من نوع آخر تمثل في كابوس يومي مقرر عليها .. دمية رأتها مقبورة في غرفة عاملة بالفندق حرمتها النوم في سلام وعكرت مزاجها الرائق صباحا حين تتقاسم بيتزا المارجريتا مع عصافير تنتظرها على طاولتها كأنها وهى أصدقاء لايحلو تناول الطعام إلا جماعة. 

 

…………..

 

تهوى سارة الرسم .. كوسيلة مشروعة للتعبير عن مكنون الذات .. واذا سألتها ماذا تريدين أن تقولي من خلال لوحاتك، لكان ردها كرد معظم رسامي العالم : لو عندي إجابة محددة لضاع معنى ما أرسمه.. استلهم أنت مايصلك ، وأيا كان استلهامك فتأكد أنه صح .. الأمر يرجع لحالتك المزاجية وقت مشاهدة اللوحة .. وان شاهدتها بحالة مزاجية مختلفة عن الأولى فسيصلك معنى أخر .. فلا تسأل رساما او كاتبا عن مقصده.. ربما هو نفسه لايعرف. 

 

لجوئها إلى الرسم مجرد هروب دائم من واقع رفض الاعتراف بها ككائن أنثوي.. فكان حتما عليها هى الأخرى رفض هذا الواقع والتمرد عليه .. ففي محيط عائلتها غير مسموح لها ان تحب وتعشق.. غير مسموح لها تلبية نداءات جسد لا قدرة لديها على منعه من البوح الذي يصل حد الصراخ.. لذلك عندما تعرفت على ( برنارد ) لم تمنع نفسها من الاعتراف بانجذابها اليه.. وهو ينظر إليها منتقبة ولا يظهر له منها إلا عينان ، كان يحار في تفسير نظرتيهما .. فملامح الوجه توحي بالكثير .. كانت تخرج معه وتمرح كطفلة تأتي بأفعال عفوية لا يمكن أن تعاقبها عليها.. رأت فيه شغفا ملحا لاستكشاف مايخفيه هذا النقاب.. فأزاحته ليظهر وجه بديع في جماله وتناسق مفرداته.. ولم تكتف.. خلعت غطاء الرأس لتفرج عن شعر غجري مجنون يسافر في كل الدنيا مثلما عبر نزار قباني في قصيدته قارئة الفنجان .. ولم تكتف .. خلعت العباءة الواسعة وألقت بها أرضا ، ليصرع جمال الجسد وتناسقه البديع قلب برنارد الذي فاجأها بقوله : أى بيئة متخلفة كنت تعيشين فيها يحرم كل هذا الجمال من الاعلان عن نفسه والدفاع عن حريته.

 

………..

 

هذه اللحظة يسمونها في السينما( ماستر سين ) اى اللقطة الرئيسية المحورية في العمل السينمائي.. لحظة رأتها حقا من حقوقها .. لها ان تفرح وتسعد وهى ترى فرحة طفولية لكن لا تخلو من اشتهاء في نظرات محب رأت كل الصدق في مشاعره.. فسمحت ليديها ان تحتضنها يداه.. ومنحت شفتيها حق الارتواء بعد سنوات كادت تتشقق وهى تتوق ألما ورغبة في رشفة ماء تعيد إليها الحياة. 

 

……………

 

لاتزال سارة تعاني هذا الحلم الكابوس.. الدمية الي رأتها في غرفة عاملة الفندق .. ماحكايتها .. ولماذا تقصدها كل ليلة تستصرخها ان تنقذها.. ان تخرجها من هذا القبر او هذا البئر.. تمنحها قبلة الحياة ربما تمثلت أمامها على هيئة انثى مثلها لن تنسى لها حسن صنيعها. 

 

تعود بالذاكرة لطفولتها ونشأتها ومعاناتها المريرة في بيئة جامدة صلدة صدئة لتدرك أن هذه الدمية التي تؤرق منامها هى نفسها سارة .. كأنها كل ليلة تتذكر ما ألم بها وعانته من حرمان فترى نفسها تلك الدمية الملتاعة التي تم الحكم عليها ان تقبر حية.. فقد كانت قبل مجيئها الريف السويسري تعيش ميتة او كأنها ميتة بالفعل تمثل دور فتاة حية ، ليس فيها من معالم الحياة إلا نفس يدخل ويخرج او هى تدعي ذلك.

 

…………..

 

برنارد مسيحي وهى مسلمة .. فهل للقلب ان يمنع نبضه ويتساءل قبل أن يخفق عن الديانة .. ؟ لم تستطع أن تمنع نفسها من الانشغال به.. أحبته كأنها خلقت لتكون له دون سواه.. لكن الزواج له شروط.. يستحيل عليها ان تغير ديانتها من أجله.. لكنه هو من فعل ذلك .. ليس عن قناعة بالإسلام ولكن ليزيل حاجزا يحول دون الارتباط.

 

لكنها لم تستطع فعل ذلك .. في الوقت الذي قررت فيه العودة إلى بلدها مصرة على مواجهة واقعها، مانحة لنفسها حرية لن تتنازل عنها .. ستقف في وجه أخيها وتسترد ميراثها عنوة منه .. سوف تعطي لنفسها الحق في أن تحب وتعيش.. ان تختار الرجل الذي سيسعدها ولا يعتبرها دمية لا أحاسيس لها تلبى.. سيفرح بتأوهها تحته غنجا وليس ألما .. لن يعيدها لبيت أهلها ليحسنوا تربيتها.. سيتعامل معها كأنثى انسانة من حقها ان تبوح وتصارح.. من حق جسدها ان يرتوي دون محاكمة جاهلة تستكثر عليها أبسط حقوق الحياة. 

 

………….

 

ودعته برسالة – اقصد برنارد – كتبت فيها كان لابد لي من العودة لموطني كي أستعيد نفسا انتهكت أدميتها.. روحا عذبت حتى ضاعت هويتها، لعلنا نجتمع يوما ما ، اذا وجدتها ، عندها سأكون قادرة على المواجهة ووقتها فقط أصبح جديرة بك.

 

………….

 

ما المصير الذي ينتظر سارة عند عودتها ..؟ لم يقل لنا الكاتب صراحة ، غير أننا نتوقعه دون الإفصاح عنه.. نهاية حتمية لو أتى بغيرها لنسف فكرة روايته من أساسها.

 

ايتها السارة الباحثة عن الخلاص.. على اى نحو سيكون خلاصك؟!!

 

…………

 

بقي أن أشيد بهذا الاسلوب الأدبي رفيع المستوى.. التمكن الرهيب للكاتب من أدواته.. سرده المشوق والممتع إلى أقصى حد .. وصفه للريف السويسري الذي جعلني أندم أشد الندم حين زرت سويسرا من ٢٥ عاما ولم أبرح عاصمتها جنيف ، ولو نبهني أحد وقتها لجمال الريف السويسري، ماعدت إلى مصر قبل الاستمتاع بروعته وألقه وتألقه.

 

هذه الرواية التي تعمدت عدم الخوض في تفاصيلها الدقيقة والمهمة حتى لا افسد على من يقتنيها وأحرمه لذة الاستمتاع وأحداثها وشخوصها.. اقول هذه الرواية ارشحها بثقة لجائزة البوكر .. ولو أنني أعمل بالإخراج السينمائي، ما فاتتني تلك الرواية لأنسج منها فيلما لايشاهده أحد إلا وأعلن عن انبهاره بالفكرة والمحتوى.

………….

تحية خالصة لأديب سعودي متفرد قادر على جذبك وإرغامك بكامل إرادتك ان تكتب عنه منتشيا ومستمتعا إلى أبعد حد.

تعليقات الفيس بوك

تعليقات الفيس بوك

عن ELkebar-admin

مجــلة الكبـــار .. مجــلة اقتصــادية شــهرية تعد ملتقى الخــبراء وقــادة الــرأي في المجــال الاقتصــادي , ونافــذة رجــال الأعمــال والمســتثمرين على المشــروعات الاقتصــادية التي تهدف إلى عــرض ومناقشــة القضــايا الاقتصــادية المصــرية والعربيــة والدوليــة بأســلوب موضــوعي وأمــانة صحفيــة وتقديــم الخدمــات الاســتثمارية والبنــكية والتجــارية لقطــاعات المجتمــع .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.